إن كنتِ امرأة وإن كنتِ نسويّة، لابد وأن صادفك يومًا أشخاصًا يتهمونك بكراهية الرجال. لابد وأن أعطاكِ إنستغرام تحذيرًا بغلق حسابك، أو حذف فيسبوك منشورًا لكِ بتهمة تبني خطاب كراهية ضد الرجل. وربما لاحظتِ أينما كنتِ ومهما كنتِ حذرة في كلماتك عن الرجال، تلاحقك الضوابط والمعايير والتُهَم الجزافية بأنك تكرهين الرجال. ويظهر أشخاصًا من العدم، كل مرة، ليقولون لك: “ليس كل الرجال”. ورغم أن النسبة المرعبة للعنف الذي يرتكبه الرجال بحق النساء والأطفال والأشخاص غير النمطيين/ات حول العالم تسمح بتعميم كلامك بأريحية شديدة، إلا أن التعميم له عواقبه.. عليكِ لا عليهم! في هذا النص، نُبحر معًا في وصمة “كراهية الرجُل”، ونُفككها كأداة أبويّة وذكوريّة لإخراس النساء.
مَن هو الرجُل؟
بسطحيّة شديدة، يعتقد الأشخاص الذين يلقون علينا تهمة “كراهية الرجُل” أن تعريف الهوية الاجتماعية للرجُل بسيط وموحد. وبنفس السطحية يُطلقون سِهام التُهمة كأننا نحن اللواتي ساوينا بين الهوية الاجتماعية (رجُل) وبين العنف. على مر التاريخ، احتلت الأنظمة الأبويّة النصيب الأكبر من تصنيف الهويات الاجتماعية للأفراد، وحصرتها في ثنائية محدودة: رجل/امرأة. ثم أفردَت لكل منهما مجموعة من الصفات والسلوكيّات التي نظّمتها بالقوانين والأعراف التي نتربى عليها ونتوارثها. ربطت الأبوية بين الهوية الرجوليّة والعنف والسيطرة، وبين النساء والخضوع.
Videos by VICE
لكن الأمور ليست بهذه البساطة بالنسبة لنظام اجتماعي سياسي نجح في التواجد على مدار قرون. فالرجوليّات نفسها متفاوتة في درجات الهيمنة والعنف بناءًا على عوامل أخرى، كالسن والطبقة، والمكانة الاجتماعيّة، والميول الجنسيّة، وغيرها. ولكل عامل منهم تأثيره على درجة العُنف المُمارس من أصحاب الهوية الاجتماعية (رجُل) والمُمارس عليهم أيضًا. وتظل كلمة (رجُل) بمفردها مساوية للهيمنة والعنف، ومكانة يسعى إليها الذكور البيولوجيين للتمتع بأكبر قدر من الامتيازات، وتجنّب أكبر قدر من الوصم.
أغلب النسويات، إن لم يكُن جميعهنّ، يعرفن الفرق جيدًا بين الرجوليّات المختلفة (Masculinities)، وعندما يستخدمن كلمة (رجُل/رجال)، يقصدن (١) الرجُل النمطي مغاير الجنس الذي يُمارس العنف على مَن يعتقد أنهنّ/م تحت سيطرته وفي نطاق هيمنته. ويقصدن كذلك (٢) الرجُل غير الحساس لموقعه الاجتماعي كشخص ذو امتيازات، على الأقل ظاهريًا. ويقصدن (٣) الرجُل غير المُدرك للمسؤولية التاريخية تجاه هويته الاجتماعية التي صادف وأن أغلب مرتكبي العنف تاريخيًا ينتمون إليها. وبما أن الرجوليّة المهيمنة هي السائدة من حولنا، فنعم، نقصد الأغلبية من الأشخاص الذين يصنفون أنفسهم رجُل وتجتمع فيهم إحدى أو جميع هذه النقاط.
العنف الممارس من قبل الرجال
إن كانت هذه الصفات هي الأعم والأشمل والسائد، وإن كانت جرائم العنف اليومي التي تُرتكب ضد النساء، يقوم بها أشخاص ينطبق عليهم هذه النقاط. فلماذا لا يجب علينا أن نكرههم؟! وفقًا لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، فإن ما يقرُب من ٧٣٦ مليون امرأة وفتاة حول العالم تعرضت للعنف الجنسي. أكثر من ٦٤٠ مليون امرأة فوق سن ١٥ عام، تعرضت للعنف من الشريك. في عام ٢٠٢٠، قُتلت ٨١٠٠٠ امرأة وفتاة، أكثر من ٥٨٪ منهنّ قُتلن على يد الشريك أو أفراد الأسرة الذكور، وبمعدل ضحية واحدة كل ١١ دقيقة. ١٥ مليون فتاة بين سن ١٥-١٩ عام، أُجبرن على ممارسة الجنس، بواسطة شريك/حبيب/زوج؛ ١٪ منهن فقط طلبن المساعدة.
في عام ٢٠١٨، ٩٢٪ من ضحايا جرائم الإتجار بالبشر كن من النساء والطفلات. ١٠ مليون فتاة مُعرضة لخطر الزواج المُبكر بسبب وباء كوفيد-١٩. على الأقل، ٢٠٠ مليون امرأة وفتاة تعرضت لجريمة تشويه الأعضاء الجنسية الأنثوية (الختان)، في ٣١ دولة فقط. ٨٢٪ من النساء البرلمانيات يتعرضن لعنف نفسي ذو طبيعة جنسيّة، ٦٥٪ منهن تعرضت لهذا النوع من العنف الجنسي بواسطة زملائهن الرجال البرلمانيون. في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تصل نسبة المتعرضات للعنف الجنسي من الرجال في الأماكن العامة إلى ٦٠٪.
هذه فقط الإحصاءات الرسميّة والتي يخلو منها أغلب العنف الذي تتعرض له النساء في منطقتنا بسبب غياب آليات الإبلاغ لأنه لا يوجد قوانين من الأصل لمقاضاة المعنفيّن، خاصة في جرائم العنف الأسري والاغتصاب الزوجي، والقتل العمد بدافع الشرف. هذا ونحنُ لم نذكر أي شيء عن جرائم العنف المُرتكبة ضد النساء على الإنترنت، أو القتل على أساس الهويّة الاجتماعية (Femicides) والتي انفجرت مؤخرًا ضد الشابات في العالم العربي. هذا العنف لم يرتكب نفسه. هذا العنف ارتكبه رجال حتى لو تمت صياغته في التقارير الرسمية وبناءه للمجهول. وبعد كل ذلك، لا يتم اتهام الرجال بكراهية النساء؛ بل نحنُ اللواتي يتم اتهامنا بكراهيّة الرجال.
الكراهية مقابل العنف
كما نجحت الأبوية في مساواة الرجولية بالعنف، ومأسسته بالقوانين ونظّمته بالعادات والتقاليد المتوارثة، تبنّت أيضًا آليات اجتماعية تسمح للرجال بالإفلات بهذه الجرائم حتى وهي واقع ملايين النساء في العالم. أحد أبرز هذه الآليات هو الإخراس المتعمّد والممنهج بوصم كل شخص تحدث علانيةً عن عنف الرجال، وانتقد ربط الرجولية بالعنف، لاسيما النساء والنسويّات.
المفارقة الهزلية في اختيار لفظ: «كراهية» والمعتمد على المشاعر، مقابل لفظ «عنف» المعتمد على ممارسة الأذى تجعل مَن يلقون علينا بتهمة كراهية الرجال يبدون كمهرجين السِيرك: كل كلمة وكل حركة وكل ايماءة، مثيرة للضحك وللشفقة. يُنكرون علينا حتى الشعور بالغضب والتعبير عنه بالكلمات، مقابل جرائم حقيقية نحنُ مُتعرضات لها يوميًا وأكثر من مرة في اليوم لمختلف أشكال العنف.
لو افترضنا أن النساء تكره الرجال بالفعل وسألنا: ماذا يدفع الرجال ثمن كراهية النساء لهم، وماذا تدفع النساء ثمن عنف الرجال ضدهن؟ لوجدنا أن مشاعر الكراهية – التي هي ليست كراهية بالمعنى الحرفي بل غضب مستحق – لم تُعرّض الرجال يومًا لعنف ملموس وفعلي. كل النساء اللواتي تم اتهامهنّ بكراهية الرجال، لم يُمارسن عنف ضد الرجال في المطلق، حتى الأفعال التي يُمكن تصنيفها “انتقامًا” لم تلحق أذى وعنف بجميع الرجال، ولم تتسبب في خوف ورعب للرجال الآخرين. بل أنها لم تنجح في أغلب الحالات ولنا في وقائع فضح المعتدين جنسيًا خير مثال.
ذلك ليس نفيًا أن النساء قادرات على ممارسة العنف، بل تفكيكًا لخطاب «كراهية الرجال» ومترتباته. على النقيض، الرجال الذين يمارسون عنفًا ضد امرأة واحدة، يُهددون حياة وسلامة النساء الأخريات. ذلك لأن – للمرة المليون – القوانين والأعراف تُمكنهم من تكراره حتى في حالات العنف النفسي. ولا يوجد مساحة للمقارنة بين الغضب (أو ما يحب الذكوريون تسميته بكراهية الرجال)، وبين ممارسة العنف كجريمة قائمة على النوع الاجتماعي. الذكوريون لا يستطيعون حتى صياغة جدلية واضحة في هذا الشأن. يستخدمون خطاب «كراهية الرجال» لإخراس النساء. وبدون تعجّب، تلك أداة ذكوريّة فعّالة، لكن مُهمتنا الآن هي إعادة استخدامها لصالحنا.
نكرَه الرجال ولا نخاف الوصم
علينا أن نقلب هذا الخطاب رأسًا على عقب ونسأل مَن يتهموننا: إن كان الواقع يدفعنا لكراهية الرجال، هل هناك أسباب “واقعية” تجعلنا لا نكره الرجال؟ ماذا فعل الرجال حتى لا نكرههم؟ وماذا فعلوا لنكرههم؟ وهل كراهيتنا للرجال تتسبب في جرائم ضد الرجال كما هو الحال مع كراهية الرجال للنساء؟
أتحدى أن يأتي أحد مُتهمينا بكراهة الرجال بأسباب تجعلنا لا نكره الرجال. وأنا هنا أعيد استخدام خطاب «كراهية الرجال» ضد مستخدميه. وبدلًا من أن يتم وضعنا في حالة نفي دائم أننا لا نكره الرجال وبأن ليس كل الرجال يرتكبون العنف، نضع الذكوريين في حالة تبرير لهذه الكراهية. ونطلب منهم بشكل واضح جدًا أن يصيغوا أسبابًا لكي لا نكره الرجال أو نُعمم أن الرجال يرتكبون العنف.
في كل مرة تحدّثنا فيها عن عنف الرجال ضد النساء، يتم ابتزازنا بأنه يجب علينا صياغة موقف واضح أننا نعرف أن هناك رجالٌ لا يرتكبون العنف. أعتقد أنه لابد ألا نخضع لهذا الابتزاز. صياغة المواقف هذه ليست مهمتنا! والحفاظ على مشاعر الرجال الذين (يجب أن يعرفوا “مثلنا” أن الحديث عن العنف لا يشملهم لو لم يمارسوا العنف بأنفسهم) ليست مهمتنا أيضًا!
يجب أن نخرج من خانة الدفاع المستمر عن أنفسنا كنسويات وكنساء معرضة للعنف من الرجال أكثر من احتمالية تعرضهن للعنف من نساء. وأنا هنا أعني استخدم التعميم في مواجهة الإخراس الذكوري. إن التعميم، الذي هو في محلّه تمامًا، هو أداة نسويّة في هذا السياق. وهدفها هو أن ينتفض القلة الباقية من الرجال الذين لا يُمارسون العنف، والحساسين تجاه هويتهم الاجتماعية ومسؤوليتها التاريخية. على أن يكون هذا الانتفاض في وجه الأغلبية الساحقة والمرعبة من الرجال مرتكبي العنف، وليس في وجه الأفراد والنساء اللواتي يدفعن ثمن العنف من حيواتهنّ وصحتهنّ النفسيّة وأمنهنّ الشخصيّ.
أنا وملايين النساء، كنّا نتمنى لو أننا نعيش حياة هادئة مُسالمة لسنا مضطرات فيها لاختبار العنف، ثم بلع صدماته وتبعاته علينا كأننا في معزل عن حقيقة أن مرتكبي العنف ضدنا رجال. كنّا نتمنى لو أنه لا يتم محاكمتنا على مشاعرنا ومساومتنا على التخلّي عن غضبنا النسوي مقابل قبولنا اجتماعيًا. أو اعتبارنا مسؤولات عن هشاشة مشاعر الرجال المُنزعجين من خطاباتنا النسوية بدلًا من توجيه انزعاجهم تجاه أقرانهم. لكن هذا هو الواقع — الذي قررنا تدميره بأدواته هو نفسه.
وللإجابة عن عنوان النص، نعم، نكره الرجال. وعلى المتضررين من هذه العبارة إيجاد بدائل تجعلنا لا نكره الرجال بدلًا من المصادرة على خطاباتنا النسويّة.