KBP_2938

شيرين عبده في واحدة من حفلاتها، الصورة مقدمة منها.

مقال رأي

جسد كبير للمسرح...

قال لي بعد مناقشة طويلة حول الفن والموسيقى "هحاول أجيبلك مقابل أكتر، بس لازم تخسي عشان الشكل هو الي بيبيع"

بدأت ممارسة الغناء كمهنة احترافية في عمر الخامسة والعشرين. الإطراءات والانتقادات والتعليقات التي كانت تصلني لم تكن تتعلق بصوتي أو الأغاني التي أقدمها، بل كانت تتعلق بوزني.

خلال رحلتي مع الموسيقى والمسرح، مررت بالكثير من المحطات في حياتي الشخصية، استلزم بعض من هذه المحطات دعمًا صحيًا ونفسيًا، وتم وصف عدد من الأدوية مثل الكورتيزون ومضادات الاكتئاب التي نتج عنها تغيرات في الوزن خلال فترة قصيرة للغاية. في سنة واحدة ولمرحلتين يفصلهما خمس سنين، ازداد وزني من ستين كيلوغرام ليتعدى المئة. وخلال كل هذه المراحل لم أتوقف عن ممارسة الغناء والظهور المتكرر على المسرح في ثيمات موسيقية مختلفة.

إعلان

على مدى عقودي الثلاثة، لم أمانع زيادة وزني إطلاقًا ما دامت لم تؤثر على صحتي الجسدية، وفي كل مرحلة كنت قادرة على الاستمتاع بجسدي كما هو، وكنت أشعر بالراحة التامة مع من أنا كشخص وكفنانة. بالطبع كان هناك دائمًا ما يحد من خياراتي فيما يتعلق بالملابس مثلاً، كون أغلبية المتاح في سوق الملابس مصحور على المقاسات الصغيرة، وهو أمر غريب كون بلدي مصر تحتل مركزاً عالمًيا متقدمًا في إحصائيات عدد أصحاب الوزن الزائد. وبالطبع كان هناك مقايضات كثيرة من بينها ارتفاع أسعار الملابس للمقاسات الكبيرة، وطبعاً، السعر المبالغ فيه هو مقابل أن يكون المقاس متاحًا فقط، وليس مقابل الجودة أو جمال الملابس.

خلال هذه الفترة، ازدهر عملي كمغنية صولو خلال الفترة الأولى التي اختبرت فيها زيادة الوزن الكبيرة. تصادف ذلك بعملي مع الفنان الكبير العزيز زياد الرحباني، ثم بدأت مشروعاتي المنفردة الخاصة بين أغاني الأصلية المصرية وبين مشروع أغاني الچاز.

توالت طلبات الحفلات والبرامج، وبطبيعة الحال لفتت أنظار العديد من وكلاء الحفلات "الذكور" بغالبيتهم العظمى، حيث أن كواليس الصناعة الخلفية كلها مسيطر عليها من قبل الرجال في حين تكاد تنحصر أدوار النساء على المسرح، بين عازفات ومؤديات صوتيات. وهنا اكتشفت أن جسمي الذي يخصني وحدي، كان يضايق كثير من وكلاء الحفلات.

الوكيل الأول الذي طلب مقابلتي عبر صديق مشترك، أخبرني أنه سيتولى تسويقي في العالم العربي، وأن لدي فرصة في أن أكون نجمة جيلي وإنني أمتلك أغلب المقومات لذلك، ولكن لحصول ذلك، لابد أن "تخسي وتشتغلي على نفسك."

الوكيل الثاني الذي طلب مقابلتي بعد أن أرسل له مدير أعمالي وصديقي الحميم آنذاك بعض المقاطع لأغاني الچاز التي قدمتها، قال لي بعد مناقشة طويلة حول الفن والموسيقى، تدرجت إلى عرضه مبلغ مهين مقابل أدائي الأسبوعي في أحد الأماكن، وانتهت بجملة كليشيهية "هحاول أجيبلك مقابل أكتر، بس لازم تخسي عشان الشكل هو الي بيبيع."

إعلان

القصة تكررت مع صديقي الحميم التي عشت معه علاقة مسيئة طويلة، كان يستفزه ارتياحي مع جسدي وكيف كنت أرى نفسي وكيف يراني الآخرون جميلة. كان الضغط كبيراً ومستمراً، وكان في كل مناسبة يقول لي" "لازم تخسي عشان صحتك." وعندما أصبح مدير أعمالي، تحولت جملته المتكررة إلى: "لازم تخسي عشان صحتك وعشان المسرح، لازم يبقى شكلك حلو قدام الكاميرا."

حتى في قمة الانشغال والاضطراب النفسي، دافعت عن نفسي بشكل غريزي حينما شعرت أنه يتم استغلالي ومقايضتي باستخدام قيم ذكورية مُسممة قاومتها منذ الصغر. كنت أدرك اختلال موازين الآخرين الذين يسقطون فشلهم الشخصي واختلال معاييرهم على الآخر ليشعروا ببعض الأفضلية والتفوق. ولعل هذا هو السبب أنني لم أبدأ بخطة لتنظيم طعامي أو ممارسة الرياضة، إلا من أجل صحتي وبتوقيتي الخاص.

أكملت طريقي، وللمفارقة كانت أفضل أيام ازدهار عملي وأنجح وأكبر حفلاتي وأنا "بوزن زائد" كما يقولون. خسرت لاحقاً، ٣٥ كيلو حينما أقلعت عن الأدوية، حتى أصبح عسيراً أن يتعرف علي كثيرون. ولكن بعد متاعب صحية وأزمات نفسية، عدت لتناول الأدوية من جديد، وعاد الوزن الزائد، وعدت إلى المسرح من جديد لأحقق نجاحات أكبر.

المفاجأة كانت أن الجمهور كان له رد فعل لم أتوقعه، وأيضًا لم أنتظره أو أرغب فيه، كان يقال لي "شكلك أحلى وانتى كلبوظة ومكانش لايق عليكي الرفع،" ربما اعتقاداً منهم أنني سأشعر بالإطراء لكلامهم هذا. ولكن خسارة الوزن أو زيادته ليست اطراءً بأي شكل. قاعدة العشر ثوان تخبرنا بعدم التعليق على ما لا يمكن تغييره في مظهر الآخر خلال عشر ثوان. وأنا أقول إنه ليس من حقك التعليق على مظهر الآخر إطلاقًا، لأنه ببساطة لا يخصك.

إعلان

عدد الكيلوغرامات "المقبولة" للنساء مرتبط بالنظام الذكوري الذي يعيد إنتاج أنماط تسليع جسد المرأة، والذي يربط قيمته بمدى قربه من المعايير التي يضعها ويرسخها. وبدلاً من أن تنشغل المرأة بالعمل على موهبتها وتحقيق أحلامها، يحتم عليها أولا أن تنشغل بمطابقة تلك المعايير، والمحزن أننا نرى نساء كثيرات نشأن تحت مظلة نفس النظام المجتمعي الذكوري، ينخرطن في الحكم بنفس المعايير على نساء أخريات تحت أضواء النجومية.

أثناء بحثي عن نماذج لفنانات اعتلين المسرح دون وصم بالعار لأجسادهن لزيادة وزنهن أو اختلاف أشكالهن عن القالب السائد، صدمتني كل العناوين التي وضعت تحتها تلك الفنانات ومن ضمنها أنا "شيرين عبده قبل زيادة وزنها وبعده" "١٥ مطربة سمينة لابد أن تسمعها،" ونساء بوزن زائد لكنهن أصبحن نجمات." المشكلة الأساسية هي أن هذه العناوين تدعي أن هؤلاء النساء كسرن القاعدة، ولكن القاعدة يجب أن تكون هي تقبل الجميع وليس العكس. وجود التصنيف نفسه خاطئ، ومن الخطأ الاكبر محاولة إثبات أن هناك كسراً للقاعدة مبني على تصنيف مسيء من الأساس. وهو ما يذكرني بالجمل التي تحمل شراً مبطنًا، وتدعي عدم العنصرية مثل "مسيحي لكن كويس، سمرا بس جميلة."

علي الرغم من كل التصنيفات والوصم المجتمعي، هناك العديدات من النساء اللائي بذلن جهوداً مضاعفة من أجل الوصول للنجومية، في عالم يسيطر عليه الهوس بالنحافة ومنهن: إيلا فيتزجيرالد أسطورة الجاز، إيتا جيمز، أريثا فرانلكين، ومن المعاصرات ليزو وأديل. وقد تكون أديل، أشهر هذه النماذج، والتي اختارت مؤخراً أن تحظى بتغيير درامي في حياتها لتقود حياة صحية. وهناك كذلك العديد من الممثلات العربيات اللواتي حققن نجاحات كبيرة كذلك بعيداً عن وزنهن، ولكن عالم الغناء العربي لا يزال محكومًا بصورة نمطية واحدة متفق عليها ضمنياً "لكيف يجب أن تبدو المغنية كي تتمكن من النجاح."

لا زلت أتلقى العديد من التعليقات والرسائل والتي تسألني بكل وقاحة لماذا زاد وزنك؟ وأين شيرين الرشيقة؟ وبالطبع ليست صدفة أن كلها من ذكور عرب. أتجاهل الرد واكتفي بالبلوك لأنني لا أمتلك الطاقة ولا الرغبة في الرد ومحاولة تغيير قناعاتهم. أكتفي اليوم بأن أحاول أن أكون نموذجًا لإيجابية الجسد لكل النساء اللواتي أصادفهن في الواقع أو على السوشيال ميديا، في أثناء خوضي رحلتي الثانية لفقدان الوزن مدفوعة بظروف صحية.

للتذكير جسدنا كنساء يخصنا وحدنا، ووحدنا فقط. ورأيك بوزني وكيف أبدو بوزن أقل أو أكثر ليس إطراءً.. من الآخر كده..وزني ما يخصكش.